فصل: مسألة الرجل يجب عليه هديان مثل أن يقرن ويفوته الحج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الرجل يجب عليه هديان مثل أن يقرن ويفوته الحج:

وسئل مالك عن الرجل يجب عليه هديان، مثل أن يقرن ويفوته الحج، قال مالك: أرى عليه هديين، فإن لم يجدهما ووجد أحدهما أهدى هديا، وصام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، فمن لم يجد شيئا صام فيه ستة أيام قبل النحر في إحرامه، وأربعة عشر إذا رجع.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية يسقط عنه هدي القران في الحج الفائت، ويجب عليه هديان؛ هدي للفوات، وهدي لقران القضاء ينحرهما جميعا في حجة القضاء، وهو ظاهر ما في الموطأ، وقد تأول أبو عمر الإشبيلي ما في الموطأ من قوله: يهدي هديين، أن يكون الهدي الذي كان ساقه في قران الحج الفائت قد نحره حينئذ، وبقي عليه هديان في الحجة التي يقضي، وكذلك في كتاب محمد أن عليه ثلاث هدايا لابن القاسم، من رواية أبي زيد عنه.
قال: ولو قرن فأفسد حجه، ثم فاته الحج؛ لكان عليه أربع هدايا؛ هدي للقران، وهدي للفساد، وهدي للفوات، وهدي لقران القضاء، وهو مذهبه في المدونة أن الفوات لا يسقط عنه دم القران إن كان قارنا، ولا دم الفساد إن كان قد وطئ قبل أن يفوته الحج، قاله في الحج الثالث فيمن وطئ، ثم فاته الحج أن عليه هديين، والقران مقيس عليه، وأما من قرن، ثم أفسد حجه فلا اختلاف أن عليه ثلاث هدايا؛ إذ لا يسقط الفساد هدي القران؛ لوجوب إتمام القران الفاسد، فإذا وجب إتمامه وجب الهدي عنه، فعلى هذا يحمل ما في سماع أشهب بعد هذا.

.مسألة حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث:

وقال مالك فيمن حلف بالمشي إلى بيت الله، فحنث، فإنه يمشي من حيث حلف، وكانت يمين صاحبها ألا يفعل كذا وكذا، حتى ينتقل من منزله، وكان صاحب خيمة.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة متكررة في هذا الرسم، من هذا السماع، من كتاب النذور، وفيها هناك زيادة، وجوابه فيها هنا وهناك على ما في كتاب العتق الأول من المدونة، في الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل مملوك أملكه من الصقالبة حر، فاشترى- بعد يمينه، وقبل أن يكلم فلانا- صقالبة، ثم كلمه أنهم يعتقون، خلاف ما في سماع زونان، من كتاب الأيمان بالطلاق، فيمن قال: إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق، فتزوج ثم كلمه، قال: لا شيء عليه في التي تزوج قبل يمينه، وإنما يلزمه الحنث فيما تزوج بعد كلامه، وبالله التوفيق.

.مسألة يركع في الحجر لطواف النافلة:

ومن كتاب نذر سنة يصومها:
مسألة وسئل مالك عن الذي يتنفل بالطواف، أترى أن يركع ركوعه في الحجر؟ قال: ما يعجبني، وأما أن يركعهما من غير الطواف، فلا أرى به بأسا ثم قال بعد ذلك: لا أرى بأسا أن يركع في الحجر لطواف النافلة.
قال محمد بن رشد: وجه القول الأول أن الركوع الأول لما كان يجب على من طاف تطوعا؛ لئلا يبطل طوافه إن لم يركع أشبه الواجب، فكره أن يفعله في الحجر، ووجه القول الثاني أنه جعل تابعا للطواف في أنه يفعل، فأجاز له فعله.

.مسألة تفسير مكة وبكة:

وسئل مالك عن تفسير مكة وبكة، فقال: بكة موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، يريد القرية.
قال محمد بن رشد: أراه أخذ ذلك من قوله عز وجل؛ لأنه قال في بكة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96]، وهو إنما وضع لموضعه الذي وضع فيه، لا فيما سواه من القرية، وقال في مكة: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24]، وذلك إنما كان في القرية، لا في موضع البيت، والله أعلم.

.مسألة حفر زمزم:

قال مالك: رأى عبد المطلب أنه يقال له: احفر زمزم لا تنزف، ولا تذم بين فرث ودم، يروي الحجيج الأعظم في موقع الغراب الأعصم، قال: فحفرت.
قال محمد بن رشد: قد جاء في الحديث الصحيح: «أن إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان بينه وبين أهله ما كان، خرج بابنه إسماعيل وأمه، ومعهم شنة فيها ماء، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، فجعلت تشرب من الشنة، ويدر لبنها حتى لما فني الماء، قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا، فصعدت على الصفا، فنظرت فلم تر أحدا ثم هبطت، فلما صارت في الوادي، رفعت ذراعها، فسمعت سعي الإنسان المجهود، ثم صعدت على المروة فلم تر أحدا، فعلت ذلك سبع مرات، وابنها يتلوى من العطش، فلما كانت في آخر ذلك سمعت، فأصغت إليه فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواثا، فإذا بجبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فقال هكذا، فاندفق الماء، فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تخفق، قال: فقال أبو القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو تركته كان الماء ظاهرا، أو لكانت زمزم عينا معينا»، فيحتمل أن يكون بعد ذلك قد رفعت السيول بلقاء الرمل والتراب حتى انطمس وعفا أثره، فكان من عبد المطلب في حفره ما ذكر في هذه الحكاية، والله أعلم.

.مسألة اتخذ إبلا من مال الله يعطيها الناس يحجون عليها فإذا رجعوا ردوها إليه:

قال مالك: وبلغني أن عمر بن الخطاب اتخذ إبلا من مال الله يعطيها الناس يحجون عليها، فإذا رجعوا ردوها إليه.
قال محمد بن رشد: هذا من النظر الصحيح في مال الله؛ لأن أولى ما صرف فيه مال الله ما يستعان به على أداء فرائض الله؛ فينبغي للأئمة أن يتأسوا في ذلك بفعله، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ».

.مسألة المحرم يتخذ الخرقة لفرجه يجعلها فيه عند منامه:

ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه:
مسألة وسئل مالك عن المحرم يتخذ الخرقة لفرجه، يجعلها فيه عند منامه، قال: لا بأس بذلك، وليس هذا يشبه الذي يلقي على فرجه للمذي والبول، ذلك يفدي.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، وما كان في معناها في رسم حلف بطلاق امرأته ليرفعن أمرا، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هنا.

.مسألة يجعل في رأسه الخل قبل أن يحرم:

وسئل عن صاحب الأقرحة تكون برأسه، يريد أن يجعل في رأسه الخل قبل أن يحرم، قال: لا يعجبني ذلك، أخاف أن يقتل الدواب، قيل له: أفلا يجعله ويفدي، فإنه يشكو منه أنه يؤذيه أذى شديدا؟ قال: ما يعجبني ذلك أن يجعل شيئا، والناس يصيبهم هذا، وهو أمر قريب، وأرى أن يصبر حتى يفرغ من حجه.
قال محمد بن رشد: قد بين مالك رَحِمَهُ اللَّهُ من وجه قوله في هذه المسألة ما أغنى عن القول فيها؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196]، فلم يبح الحلق إلا عند الضرورة، وليس هذا من الضرورة التي تبيح له قتل القمل في رأسه بعد الإحرام بالخل الذي جعله فيه قبل الإحرام، على ما قال في مسألة الزاوق بعد هذا في رسم اغتسل، وبالله التوفيق.

.مسألة طاف قبل الصبح فخشي الإقامة:

وسئل مالك عن الذي يفرغ من طوافه بمكة، ثم تقام الصلاة قبل أن يركع ركعتي الطواف، وهم في الصبح يطلبون الإقامة لطواف الناس، وطردهم إياهم عن الطواف، قال: إنه يكره أن يصلي أحد بعد أن تقام الصلاة، وعسى ذلك أن يكون في المساجد غير المسجد الحرام، وعسى أن يكون هذا بمكة خفيفا، قيل له: فركعتا الفجر مثله؟ قال: نعم، أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: إنما كرهت الصلاة بعد الإقامة؛ لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: «سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أصلاتان معا؟ أصلاتان معا؟» يريد بذلك نهيا عن ذلك، وذلك في صلاة الصبح في الركعتين قبل الصبح، وخفف مالك ذلك بمكة للمعنى المذكور في الرواية، وترك ذلك أحسن وأقطع للذريعة، قال ابن نافع في المدونة: وإذا طاف قبل الصبح، فخشي الإقامة، فليبدأ بركعتي الطواف قبل ركعتي الفجر، ومثله في رسم اغتسل بعد هذا، من سماع ابن القاسم، وفي آخر سماع أشهب.

.مسألة حكم العمرة:

وسئل مالك عن العمرة أواجبة هي أم سنة؟ قال: بل سنة كالوتر وغيرها من السنن، اعتمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس فهي سنة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لمالك في كتاب ابن المواز، وذكر ابن حبيب أنها واجبة كوجوب الحج، وإلى هذا ذهب ابن الجهم، ومن حجة من ذهب إلى أنها واجبة؛ قول الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ولا حجة في ذلك؛ لأن الأمر بإتمام الشيء لا يتناول إلا لمن دخل فيه، وقالوا أيضا: ولما قال الله: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] دل على أن ثم حجا أصغر وهو العمرة، وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأنه تأويل تعارض بما هو أولى منه، وقد ذكرنا ما قيل في ذلك في رسم مساجد القبائل.

.مسألة إمام الحاج أيتعجل في يومين:

وسئل مالك عن إمام الحاج أيتعجل في يومين؟ قال: لا يعجبني، قيل: فأهل مكة يتعجلون في يومين؟ قال: لا أرى لهم ذلك إلا أن يكون لهم عذر من مرض أو تجارة يرجع إليها، قيل: فالرجل له المرأة الواحدة، فيريد أن يتعجل إليها، قال: فلا أرى ذلك مما حل الناس له إلا للمرأة الواحدة، فلا أرى إلا أن يكون له عذر من مرض أو ما أشبه، قال ابن القاسم: وقال لي مالك قبل ذلك: لا أرى به بأسا، وأهل مكة كغيرهم، وهو أحب قوله إلي.
قال محمد بن رشد: أما كراهيته للإمام أن يتعجل في يومين فبينة؛ لأن رمي الجمار في اليوم الثالث من بقية عمل الحج، ينبغي للإمام ألا يتعجل قبله ليقتدى به فيه، ويأتم به من لم يتعجل من الحاج، وأما أهل مكة، فالأظهر أنهم وغيرهم في التعجيل سواء؛ لأن الله قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، يريد في ترك الأخذ بالرخصة، إذ قد علم أنه لا إثم في الإتيان بالأكمل إلا من وجه ترك قبول الرخصة، فلذلك يبين الله تعالى أنه لا إثم في ذلك، ولم يخص أهل مكة من غيرهم فوجب ألا يفترق في ذلك حكمهم، والمتعجل في يومين يسقط عنه رمي اليوم الثالث على مذهب مالك، وهو دليل قوله في الموطأ في الدعاء: لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه، وهو قول ابن المواز: إن المتعجل إنما يرمي بتسعة وأربعين حصاة، وذهب ابن حبيب إلى أن المتعجل يرمي ليومه ولليوم الثالث وكذلك ينصرف، وبالله التوفيق.

.مسألة أكله المحرم بيض الدجاج والإوز:

قال ابن القاسم: ولا بأس في قوله بأكل بيض الدجاج والإوز، ولا يؤكل بيض الحمام، ولا بأس أن يذبح أهل مكة الحمام الرومية التي تتخذ للفراخ.
قال محمد بن رشد: قوله: لا بأس في قوله بأكل بيض الدجاج والإوز يريد للمحرم، وأما الحلال في الحرم فلا إشكال في أن ذلك جائز له، وقوله: ولا يؤكل بيض الحمام، يريد لا يأخذ ذلك المحرم فيأكله، فإن فعل فعليه فيه الجزاء عشر ثمن كبير ذلك، وكذلك لو كسره أو شواه ولم يأكله؛ لأن الجزاء يجب عليه في كسره أو شقه كما يجب عليه في قتل الصيد، فإذا أكل منه بعد أن شواه، فإنما أكل ما لا يحل له أكله، وما قد وجب عليه جزاؤه، ولو أخذه حلال فشواه لنفسه، لجاز للمحرم أكله كما يجوز له أكل لحم ما صاده الحلال لنفسه على مذهب، وسيأتي في رسم يشتري الدور والمزارع، من سماع يحيى، ما في ذلك من الاختلاف محصلا إن شاء الله.
وأما قوله: ولا بأس أن يذبح أهل مكة الحمام الرومية التي تتخذ للفراخ، ففيه دليل على أنهم لا يذبحون سائر الحمام وسائر الطير الوحشي وجميع الصيد، إذا دخلوا به من الحل، وهو خلاف المعلوم في المذهب، وقد قال مالك في المدونة:
وما أدركت أحدا ابتدأ به بدأ بالصيد يدخل به المحرم من الحل بأسا إلا عطاء، ثم ترك ذلك، وقال: لا بأس به.

.مسألة حج بثمن ولد الزنا:

وسئل مالك هل يحج بثمن ولد الزنا؟ فقال: أليس من أمته ولدته من زنا؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أنه يجوز أن يحج بثمن ولد الزنا، وأن يعتق في الرقاب الواجبة، وإن كان الاستحباب غير ذلك، روى أشهب عنه في سماعه من كتاب العتق أنه استحسن ألا يعتق في الرقاب الواجبة، وقال عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ} [البقرة: 267] الآية، فعمد الرجل إذا أراد أن يعتق أعتق هذا العبد، وإذا أراد أن يتصدق تصدق بهذا الطعام، وإنما منع من ذلك من منعه ولم يجزه، من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ولد الزنا شر الثلاثة»، «وإنه لا يدخل الجنة ولد زنية»، وإنه سئل عَلَيْهِ السَّلَامُ عن عتق ولد الزنا قال: «لا خير فيه نعلان يعان بهما أحب إلي من ولد الزنا»، وليست الأحاديث المذكورة على ظاهرها، فأما قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ولد الزنا شر الثلاثة»؛ فالمعنى فيه أنه قصد بذلك إلى رجل بعينه، كان يؤذي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أما إنه مع ما به ولد زنا، قال عَلَيْهِ السَّلَامُ هو شر الثلاثة، وقد سئل عبد الله بن عمر بن الخطاب على ذلك فقال: بل هو خير الثلاثة، قد أعتق عمر بن الخطاب عبيدا من أولاد الزنا، ولو كان خبيثا ما فعل، وهو كما قال؛ لقوله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]، وقد قيل: إن المعنى في ذلك أنه حدث من شر الثلاثة أبوه وأمه والشيطان الذي أغواهما، لا أنه في نفسه شر، والأول أولى؛ لأن ذلك مروي عن عائشة، وأما قوله: لا يدخل الجنة ولد زنية، فالمعنى في ذلك من كثر منه الزنا حتى نسب إليه كما ينسب إلى الشيء من كثر منه وتحقق به، فيقال لمن كثر منه الحذر: ابن إحذار، ولمن كثر منه السفر: ابن سبيل، وللمتحققين بالدنيا بني الدنيا، ومثل هذا كثير، وعليه يحمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عتق ولد الزنا: إنه لا خير فيه.

.مسألة خضاب المرأة المحرمة:

قال مالك: لا بأس أن تختضب المرأة المحرمة، وتمتشط بالحناء قبل الإحرام ثم تحرم.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز لها ذلك مالك رَحِمَهُ اللَّهُ عند الإحرام قبل أن تحرم، وهو لا يجيز للمحرم أن يطيب قبل الإحرام بشيء يبقى ريحه بعد الإحرام؛ مراعاة لقول من يجيز ذلك؛ لقول عائشة: «طيبت رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت»؛ إذ الحناء ليست من المؤنث من الطيب، كما أنه لا يرى الفدية على من تطيب لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، وإن كان لا يجيز ذلك مراعاة لما جاء في ذلك.

.مسألة المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام:

وسئل مالك عن مكة والمرور بها بين يدي المصلي في المسجد، أترى أن يمنع منها مثل ما يمنع من غيرها؟ قال: نعم، إني لأرى ذلك إذا كان يصلي إلى عمود أو سترة، ولا أدري ما الطواف كله تحققه أن يصلي إلى الطائفين.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا كان يصلي إلى عمود أو سترة، دليل على أنه إذا صلى في المسجد الحرام إلى غير سترة، فالمرور بين يديه جائز، وليس عليه أن يدرأ من يمر بين يديه، بخلاف إذا صلى في غير المسجد الحرام إلى غير سترة، والإثم في ذلك عليه دون المارين، بخلاف صلاته إلى الطائفين، والفرق بين الطائفين وغيرهم من المارين بين يديه في إجازته الصلاة إليهم، أن الطائفين يصلون؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، وإن جاز فيه الكلام، ألا ترى أنه لا يكون إلا على طهارة؟ وأما من صلى في المسجد الحرام إلى سترة، فلا يجوز لأحد أن يمر بينه وبينها من غير الطائفين، فإن من كان له أن يدرأه عن ذلك، وأما الطائف فلا ينبغي له أن يمر بينه وبين سترته، إلا أن لا يجد بدا من ذلك من زحام، فليمر ولا يدرأه المصلي على المرور، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يجوز أن يصلي في المسجد الحرام إلى غير سترة، فإن مر الناس بين يديه في الطواف وغيره، ولا إثم في ذلك عليه ولا عليهم، وأن مكة مخصوصة بجواز المرور فيها بين يدي المصلي، بدليل ما روى عبد المطلب بن أبي وداعة، قال: «رأيت النبي يصلي مما يلي بني سهم، والناس يمرون بين يديه، ليس بينه وبين القبلة شيء»، وقال بعض الرواة: ليس بينه وبين الطواف سترة، قال: ومن طريق المعنى أن الذي يصلي معاينا إلى الكعبة، يستقبل في صلاته وجوه بعض المصلين إليها، ولا يجوز ذلك في غيرها، فإذا جاز له أن يستقبل وجوههم، جاز له أن يمروا بين يديه؛ لأنه لا يستقبل بذلك إلا خدودهم، فهو أخف، والله أعلم.

.مسألة يخبط المحرم لبعيره من غير الحرم:

ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق:
مسألة قال مالك: لا بأس أن يخبط المحرم لبعيره من غير الحرم.
قال محمد بن رشد: الخبط هو أن يضرب بعصاه الشجر، فيسقط ورقها لبعيره، وذلك جائز في الحل للحلال والحرام؛ إذ يأمن في ذلك المحرم قتل الدواب، بخلاف الاحتشاش، ولا يجوز ذلك في الحرم لحلال ولا حرام، وإنما الذي جوز لهما فيها الهش، وهو أن يضع المحجن في الغصن فيحركه حتى يسقط ورقه، قاله في المدونة.

.مسألة يشعر بدنة بيده من الشقين جميعا:

وحدثني سحنون، عن ابن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم القاري، عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن ابن عمر: أنه كان يشعر بدنة بيده من الشقين جميعا، إذا كانت صعابا مقيدة؛ يريد موثقة، وإنما كان ابن عمر يفعل هذا ليذللها بذلك، لا أن ذلك سُنة إشعارها، وإنما سنة إشعارها صعبة كانت أو ذللا من الشق الأيسر.
قال محمد بن رشد: قوله: وإنما كان ابن عمر يفعل هذا ليذللها بذلك، ويدل على أنه كان يشعرها من الشقين جميعا معا، خلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أن معنى قوله من الشقين جميعا، أي من أي الشقين أمكنه، ومثل تأويل ابن المواز حكى ابن حبيب عنه نصا من رواية مطرف عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، وزاد في صفة الإشعار أنه طولا في سنامها، في المدونة عرضا، وقوله: إن السنة في الإشعار أن يكون في الشق الأيسر هو مثل ما في المدونة، وقد روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: أن الإشعار في الشق الأيمن، ووجه كونه في الشق الأيسر أن الذي يشعر من السنة في إشعاره أن يكون مستقبل القبلة، ويشعر بيمينه وخطام بعيره بشماله، فإن فعل ذلك وقع إشعاره في الشق الأيسر، ولا يكون في الجانب الأيمن، إلا أن يكون مستدبر القبلة، أو مشعرا بشماله، أو يمسك له غيره بعيره، فالإشعار في الشق الأيسر أظهر، ووقع الإشعار في الشق الأيمن للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في الصحيح لمسلم.

.مسألة امرأة جعلت على نفسها المشي إلى بيت الله سبع مرات إن كلمت أباها:

وقال مالك في امرأة جعلت على نفسها المشي إلى بيت الله سبع مرات إن كلمت أباها، قال: تكلمه وتمشي سبع مرات، قيل له: فهي ممن لا يستطيع المشي، قال: تحج وتعتمر سبع مرات راكبة، وهو يقول والهدي في ذلك مع كل مرة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها عن مالك وأصحابه، ولا اختلاف في ذلك أحفظه بينهم إلا روايات شاذة خارجة عن أصل مذهب مالك، منها ما روي عن ابن القاسم أنه أفتى ابنه عبد الصمد بكفارة يمين، وقال له: أفتيتك بقول الليث بن سعد، فإن عدت أفتيتك بقول مالك، فإن صح ذلك عنه فالمعنى فيه أنه قال ذلك له إرهابا عليه؛ لئلا يجترئ على الحلف بذلك، ولو عاد لم يفته إلا بالأصح من القولين عنده في وقت الفتيا، هذا ما لا يصح سواه، وبالله التوفيق.

.مسألة طاف بالبيت ففرغ من طوافه بعد الفجر:

ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية:
مسألة وسئل عمن طاف بالبيت، ففرغ من طوافه بعد الفجر، بأيهما يبدأ؛ أبركعتي الفجر أم بركعتي الطواف؟ قال: بل بركعتي الطواف.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن من سنة ركعتي الطواف أن تكونا موصولين بالطواف، فلا يفرق بينه وبينهما، إلا لعذر مثل أن يكون طوافه في وقت لا تحل فيه الصلاة، وما أشبه ذلك.

.مسألة ذكر أهله وهو محرم فأتبع ذكره في قلبه وردده على قلبه حتى أنزل:

وسئل مالك عمن ذكر أهله، وهو محرم فأتبع ذكره في قلبه، وردده على قلبه، حتى أنزل الماء الدافئ، قال مالك: ألا وقد أفسد حجه.
قال محمد بن رشد: في سماع أشهب من مالك خلاف هذا أن حجه تام، وعليه الهدي، ويتقرب إلى الله بما استطاع من الخير، ومثله ظاهر قول مالك في الموطأ رواية يحيى، ورواية ابن القاسم أصح من رواية أشهب، وإياها اختار ابن المواز؛ لأن الأمر في تجنب النساء أشد على المحرم منه على الصائم؛ لأن المحرم يستوي في ذلك عمده وجهله وسهوه، ولا تباح له القبلة ولا المباشرة ولا النظر باللذة، وإن كان أمن في ذلك على نفسه، ويجب عليه في ذلك الهدي إن فعله، والصائم تباح له القبلة والمباشرة والنظر للذة إن أمن في ذلك على نفسه، وتسقط عنه الكفارة في الوطء بالجهل والتأويل والنسيان، فوجب على هذا حيث ما فسد على الصائم صيامه، ووجبت عليه الكفارة والقضاء من جهة النساء أن يفسد على المحرم حجه، ويجب عليه الهدي والقضاء، وحيث ما وجب على الصائم القضاء دون الكفارة ألا يجب على المحرم إلا الهدي حاشى الجماع، ناسيا أو جاهلا أو متأولا، فإن ذلك يفسد الحج على المحرم، ولا يجب فيه على الصائم إلا القضاء، ولم يختلف قول مالك، ولا قول أحد من أصحابه في أن الصائم إذا تذكر امرأته وأدام ذكرها في قلبه حتى أنزل عليه القضاء والكفارة، وقد مضى في رسم طلق، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصيام تحصيل القول في حكم الصيام في ذلك، فقف عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة جعلت في رأسها زاوقا بالمدينة ثم أحرمت:

وقال في امرأة جعلت في رأسها زاوقا بالمدينة، ثم أحرمت، وذلك في اليوم الذي أحرمت فيه، فقال: أرى أن تفتدي مخافة أن يكون الزاوق قد قتل قملا بعد الإحرام، وثبت ذلك في رأسها اليوم واليومين.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، قد بيّن فيها مالك العلة في وجوب الفدية عليها، فلا كلام فيها.

.مسألة النظر في المرآة للمحرم:

قال مالك: لا أحب للمحرم أن ينظر في المرآة، فإن فعل فليستغفر الله، ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: إنما كره له النظر في المرآة مخافة أن يرى شعثا فيصلحه، فإذا سلم من ذلك فليس عليه إلا الاستغفار.

.مسألة العمرة في ذي الحجة:

قال مالك: لا بأس بالعمرة في ذي الحجة، وعمرة في المحرم، عمرة في هذه السنة، وعمرة في هذه السنة.
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك أن يعتمر في السنة إلا مرة واحدة؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعتمر إلا ثلاث عُمَرٍ؛ إحداهن في شوال، واثنين في ذي القعدة، وذي الحجة، وعمرة مع حجته على القول بأنه كان متمتعا، فأحب الاتساء بالنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21]، وأكثر أهل العلم يجيزون له أن يعتمر ما شاء، وقد روي أن عبد الله بن عمر اعتمر ألف عمرة، وأعتق ألف رقبة، وحبس ألف فرس، وأفتى الناس ستين عاما، وحج ستين حجة، وعاش سبعا وثمانين سنة.

.مسألة الغنم هل تقلد:

وسئل مالك عن البقر إذا كانت لها أسنمة، قال: أرى أن تشعر، فإن لم يكن لها أسنمة فلا تشعر، وتقلد كانت لها أسنمة أو لم تكن، فقيل: أرأيت الغنم هل تقلد؟ قال: لا، وليس هذا من شأن الغنم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، رأى أن تقلد البقر وتشعر إذا كانت لها أسنمة، قياسا على الإبل، ولم ير أن تقلد الغنم؛ لأن المعنى في التقليد أن يعرف أنها هدي إن شردت فضلت، وذلك مأمون على الغنم، أيضا فإنه يخشى عليها أن تخثو بالتقليد لضعفها، وأما الإشعار فلا يمكن فيها، ولا يقول بذلك أحد، فهذا وجه ما ذهب إليه مالك في هذا، والله أعلم.
وقد جاء تقليد الغنم في الآثار، وإلى هذا ذهب ابن حبيب.

.مسألة طاف للوداع وأراد أن يركع ركتي الطواف بذي طوى فأحدث:

وقال في رجل طاف طواف الوداع، وذلك قبل طلوع الشمس، فخرج فسار وهو يريد أن يركعهما بذي طوى أو نحوه، فأحدث قبل ذلك، قال: لا يركع ركوع الطواف، وقد انتقض طوافه، فإن كان قد تباعد، فلا يرجع، وليس عليه شيء، وإن كان ذلك الطواف الواجب فليركعهما في موضعه، وليهد بقرة أو بدنة أو شاة إن لم يجد غيرها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مثل ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف في المذهب فيها، ولا إشكال في شيء من معانيها يتكلم عليه، والله الموفق.